متى سأتمكن من العيش بسلام؟ متى سيتلاشى القلق واستطيع العيش بحرية؟ متى سأعود للعمل؟ متى سأستعيد الحياة الاجتماعية الطبيعية؟ متى سيتلاشى الحزن؟


تجبرنا الطبيعة البشرية على الرغبة في التخلص من الألم والسعي نحو الراحة والتوازن في حياتنا.

يقضي كثيرون منا أياماً أو حتى سنوات في حالة دائمة من تجنب الألم والتخفيف منه. من الشخص الذي يتجنب الصداقات والحياة الاجتماعية خوفاً من غدر الآخرين ورفضهم، إلى الشخص الذي يقيد نفسه داخل دائرة راحته خوفاً من الفشل والخطأ، وهناك العديد من الحالات المماثلة التي أشاهدها على كنبة العلاج النفسي كأخصائية نفسية أو حتى على كنبات المجالس المختلفة في حياتي الشخصية.


في كثير من الأحيان، يؤدي التركيز المفرط والذي قد يتحول إلى هوس أحياناً لانتشال التجارب السلبية في حياتنا من مشاعر أو أفكار أو غيرها، إلى هدر كبير في طاقتنا الذهنية أو حتى الجسدية. لو اُستثمر هذا الجهد في بناء شبكة حماية شخصية، لكان للشخص فرصة للارتقاء في حياته، وربما لم تكن التجارب السلبية مهمة كفاية لتؤثر عليه فتصبح كصوت في خلفية الحياة لا يحرك فينا شعرة.

تتضمن شبكة الحماية هذه الاستثمار في العمل والدراسة، وتنمية المهارات، وتجربة الهوايات، والاهتمام بالصداقات القيمة في حياتنا، وغيرها.


أعتقد أن هذا التوجه في الحياة مرتبط بأمور كثيرة في مجتمعاتنا، ويمكن تتبعه من عدة جوانب في مجالات مختلفة. من التوجه الطبي القديم المتمركز حول المرض والعلاج بدلاً من الوقاية وتعزيز العافية والرفاهية، إلى انتشار الإيجابية السامة التي نشأت مع الانفجار العظيم في محتوى تطوير الذات على مواقع التواصل الاجتماعي. إضافة إلى ترهل عضلة التقبل وتحمّل الضغوطات عند أكثرنا. وقد يطول الحديث إن تعمقنا وبحثنا عن مصادر هذه النزعة المتمحورة حول الهروب من الألم والسلبية.


قد يتبادر إلى ذهنك الآن: ما المشكلة إذا أراد الشخص تخفيف معاناته؟ وأود أن أقول، إن هذا ليس فيه أي مشكلة على الإطلاق، بل على العكس، فهي مهمة نبيلة وتتطلب شجاعة وتقديراً عميقاً للشخص.

لكن المشكلة الأساسية تظهر عندما نتجاهل الاستثمار في جوانب أخرى من الحياة. عندما نهمش مصادر القوة الموجودة لدينا والتي تتطلب اهتماماً ووقتاً. مثل مستقبلنا الدراسي أو المهني، وهواياتنا، وحلقتنا الداعمة الموجودة. فإذا استثمرنا في هذه المصادر، قد تختفي الجوانب المؤلمة بشكل ملحوظ وتلقائي.


أكبر محبط في رحلة التطور عند الإنسان هي الشرطية. عندما نربط سعادتنا أو تقدمنا أو إنجازنا بشرط. مثلاً، يجب أن يتلاشى القلق تماماً حتى أستطيع التقديم على وظيفة، أو يجب أن أتعافى تماماً من الاكتئاب حتى أتمكن من ممارسة الرياضة، أو يجب أن أشعر بأنني ١٠٠٪ مستعد للعودة والاندماج بالمجتمع حتى أعود لمخالطة الناس، وغيرها من الشروط التي تدور في محيط التركيز المفرط على نزع التجارب السلبية في حياتنا.


قد أكون منهكة في النهار، وأشعر بالحزن والغضب، وفي المساء أكون متفائلة وأذهب لحضور مناسبة اجتماعية وأستمتع بها أيضاً.


يُمكن للأضداد أن تكون موجودة في نفس الوقت في بعض الحالات، مثل الحزن والفرح، والتقبل والرفض والرضا والألم. وهناك دائماً منطقة رمادية بين الأبيض والأسود.


أحد أسباب المعاناة التي أراها تكرر نفسها في العيادة بانتظام هو التركيز المفرط على الألم. ليس من الضروري أن نتخلص تماماً من التجارب والمشاعر السلبية في حياتنا لكي نستمتع بالحياة، فالجزء الأساسي من العيش هو الاستمرارية رغم الظروف -أو حتى بسبب الظروف-، لأن رأس مالنا في وسط الألم هو القدرة على الوقوف والسعي خلف الحياة التي نستحقها.


ولذلك، أردت أن أذكر نفسي أولاً ثم أذكركم بأن الحياة ليست مجرد محاولات لتجنب الألم، بل يجب أن تكون مسعىً لخلق معنى وقيمة لحياتنا رغم كل شيء.

أمل الثبيتي

أخصائية نفسية اكلينيكية